تكوين الفكر العربي- سياسات الأفكار أم تجديد الدين؟

المؤلف: د. معتز الخطيب10.29.2025
تكوين الفكر العربي- سياسات الأفكار أم تجديد الدين؟

في الآونة الأخيرة، تصاعد الحديث والاهتمام بإنشاء كيان جديد يُدعى "تكوين الفكر العربي"، وهو مبادرة يقودها مجموعة من الشخصيات البارزة التي اشتهرت بإثارة النقاشات المحتدمة، وإشغال الرأي العام بمناقشة البديهيات الفكرية والعقائدية الراسخة، فضلاً عن مواقفها السياسية التي تدعم بعض الأنظمة وتتبنى خطابًا معاديًا للإسلاميين عمومًا. يبدو تدشين هذه المؤسسة وكأنه استنساخ لتجربة مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" التي شهدت نهاية مؤسفة، ثم انحسرت لتتحول إلى دار نشر تواصل مسيرتها عبر ترجمة ونشر كتب تتماشى مع توجهاتها العامة.

يهدف هذا المقال إلى إلقاء الضوء على الفرق الجوهري بين مناقشة الأفكار في حد ذاتها، ومناقشة "سياسات الأفكار" التي تنطوي على أهداف خفية ومآرب أخرى. أرى أن "تكوين" تقع ضمن نطاق "سياسات الأفكار" التي لا تسعى إلى الحقيقة المجردة، بل تستخدم الأفكار كأداة لخدمة أغراض السلطة في سياق الصراعات السياسية والأيديولوجية. إنها آلية لملء الفراغ وإثارة التوترات الداخلية، مما يتيح للنظام السياسي إدارة هذه التوترات والسيطرة عليها، وإشغال الناس بها لصرف انتباههم عن تحقيق أي تقدم حقيقي على المستوى السياسي. هذه السياسة تحجب النقاش الجاد والعمل السياسي الفعلي، وتفسح المجال واسعًا للخوض في النقاشات حول الموروث الديني والمعارك الفكرية التي لا طائل من ورائها.

بين الرؤية والتطبيق

تتبنى "تكوين"، وفقًا لموقعها الرسمي، رؤية تقوم على "تمهيد الطريق نحو مستقبل يزهو بالإشراق والازدهار للمجتمعات العربية والإسلامية من خلال تبني الثقافة والفكر الديني المستنير". ومع ذلك، يقتصر هذا "المستقبل المشرق" لهذه المجتمعات على "الفكر الديني" تحديدًا (والمقصود به التيار الإسلامي على وجه الخصوص)، على الرغم من ادعائها أنها تسعى إلى استعادة مكانة الفكر الديني "وتواصله وتكامله مع مستجدات العصر ومواكبة التقدم المضطرد في شتى المجالات العلمية والفكرية والقيمية".

تشخص المؤسسة أزمتها وأزمة القائمين عليها في أن "بعض التأويلات القديمة للموروث الديني أدت بالمجتمعات العربية والإسلامية اليوم إلى مآزق اجتماعية ودينية وفكرية"، متجاهلة بشكل كامل الدور المحوري الذي تلعبه الأنظمة السياسية العربية في هذه المآزق، فضلاً عن إهمالها التام للجوانب السياسية والاجتماعية والقانونية في صياغة الواقع. وكأن المجتمعات العربية كيانات تحركها وتصوغها – فقط – التركة الإسلامية دون سواها. ولتحقيق رؤيتها، تلجأ "تكوين" إلى طرح تساؤلات حول "المسلمات الفكرية، وإعادة النظر المتأنية في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين من الزمان".

ومع ذلك، فإن نظرة متفحصة على المحتوى الذي نشره موقع "تكوين" – حتى الآن – كافية لإظهار ملامح مشروع "تكوين" وأبعاده وأولوياته؛ إذ إننا نتبين فيه ثلاثة مرتكزات أساسية:

  • أولاً: التشكيك في المسلمات والطعن في الأصول الإسلامية كالسيرة النبوية المطهرة والحديث النبوي الشريف، بالإضافة إلى طرح أسئلة سطحية وعامة تتناول ما عُلم من الدين بالضرورة، مثل التساؤل عما إذا كان الخمر حرامًا شرعًا أم لا.
  • ثانيًا: إعادة قراءة انتقائية لمحطات تاريخية معينة بهدف ترسيخ فكرة محددة سلفًا، كالحديث عن نهايات الخلفاء الراشدين، وعما أسماه الموقع "محن" بعض الجهابذة والعلماء كأبي حنيفة النعمان وابن سينا وابن الهيثم؛ للادعاء بأن الموروث الديني كان لديه مشكلة مستعصية مع العلم والفلسفة، على سبيل المثال.
  • ثالثًا: نقد الأفكار المعاصرة التي استند إليها الإسلاميون في مشروعهم، أو معارضتهم من خلال الاستنجاد بتيارات فكرية مناوئة لهم. وفي هذا السياق، نشر "تكوين" موادًا عن أوهام تأصيل "الحداثة العربية"، وعن مشكلة التفكير الهوياتي الضيقة، وعن الماركسية والأحلام المحبطة، وعن علمنة الأخلاق، وعن "لماذا أهدى ماركس رأسماله إلى تشارلز دارون؟"، وعن تعدد الإسلامات، وضرورة تجاوزها لصالح "إسلام القرآن" المزعوم الذي تم تنكبه تاريخيًا، في مغالطة صريحة ترمي إلى استعادة نقد الصادق النيهوم للخطاب الديني مع توسيعه وتطويره، وكان النيهوم قد زعم قبل عقود مديدة أن "إسلام الفقهاء" حجب "إسلام القرآن"، وأن فقه الفقهاء تَشَكل بناء على تحالف مشبوه مع الإقطاع وأهل السلطة!

سمات أربعة

يمكن تحديد سمات مميزة لما يسمى بسياسات الأفكار، والتي تتجلى بوضوح في مشروع "تكوين" الذي أتى لملء الفراغ الذي خلفته "مؤمنون بلا حدود" في هذا المضمار، وهي:

  • أولًا: التحريش وإذكاء نار الفتنة والجدل حول المسلمات والأصول الراسخة

هنا يكمن غرض مزدوج الأبعاد، ألا وهو الإلهاء والتعطيل. فالإلهاء يهدف إلى إشغال عامة الناس والنخب العلمية بجدالات ومعارك كلامية هوائية لا تسمن ولا تغني من جوع، تصرفهم عن القضايا الجوهرية والقضايا الراهنة التي تتفاقم يومًا بعد يوم على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية. لقد جاء إنشاء "تكوين" والجدل المحتدم حولها في خضم قضية كبرى تشغل العالم بأسره، ويثور لها، وهي الحرب الشعواء على غزة.

أما التعطيل فيتجلى من خلال أن الفكرة الملهاة تفسد الفكرة الأصلية وتنتقص من معناها، وتشغل الناس بمعارك هامشية عن تطوير الأفكار في بيئة هادئة وغير سجالية، فالتحريش فعل سياسي يعيق أداء الواجب والمسؤولية الأخلاقية، بينما العمل الفكري فعل معرفي يفرض مسؤوليات أخلاقية وعلمية تحكمها قواعد العلوم وأخلاقياتها ومتطلبات الوقت أيضًا، واحتياجات الناس ومتطلبات المعرفة نفسها التي تحدد واجبات مخصوصة على أهل العلم في كل زمان، وهي أن يسهموا في المعرفة الموروثة: نقدًا واستمرارًا وتراكمًا وتطويرًا.

ومن طبيعة المعارف أن أي علم أو نظرية فلسفية أو علمية تجريبية لا بد أن تُبنى على مجموعة من المسلمات حتى يتسنى لأهلها البناء عليها والانتقال بها إلى مستوى آخر. أما عملية نسف المسلمات فهي عملية صفرية لا تنتمي إلى العمل المعرفي، إلا لو كانت "تكوين" تنوي طرح دين جديد والدعوة إليه.

  • ثانيًا: ضيق الأفق وقصور الرؤية وإقصاء البعد السياسي

انشغلت "تكوين" بنوع خاص – زعمت – أنه محنٌ، ولكن كتّابها والقائمين عليها لن يحدثونا قط عن أدبيات المحن في التراث الإسلامي التي يتناول جلها المحن السياسية الواقعة من ذوي السلطة، ومن أبرز الكتب في هذا المضمار "كتاب المحن" لابن أبي العرب التميمي (ت. 333هـ)، فقد عرض فيه مؤلفه لما نزل بالصحابة الأجلاء والزهاد والفقهاء والعبّاد والقادة والولاة والمحدّثين والقرّاء من محن، مثل الترويع والاعتقال والتعذيب والتغريب والقتل والصلب والقطع وغير ذلك من صنوف العذاب.

إنه كتاب يمنح القارئ صورة واضحة المعالم عن المحن التي أصابت مختلف الأطراف؛ لأن وظيفة المؤرخ ليست كوظيفة "تكوين" الأيديولوجية التي تستخدم التاريخ كسلاح في معارك الحاضر، وتتجاهل – في الوقت نفسه – محن الحاضر التي تعيشها عامة الشعوب مع الاستبداد والاحتلال معًا، والتي تفاقمت بشدة منذ نحو عقد ونصف، ولا تزال محنة غزة الكبرى مستمرة منذ سبعة أشهر قبل تأسيس "تكوين" وأثنائه وبعده!.

ومن المفارقات العجيبة أن موقع "تكوين" نشر مادة نقدية عن حد الردة لنفي العقوبة على الردة عن الإسلام (وقد كتبتُ في هذا منذ أكثر من ربع قرن)، ولكن "تكوين" نفسها لا تجرؤ على نشر مادة تستنكر إيقاع أي عقوبة على من يعارض نظامًا سياسيًا أو ينتقده!.

و"المشروع النهضوي" الذي تتحدث عنه "تكوين" وتُنيط نفسها به كما يُناط خلفَ الراكبِ القدَحُ الفردُ، كان قبل قرنين من الزمان مشروعًا شاملاً ومتكاملاً، وكان رشيد رضا – على سبيل المثال – شديد الوعي بهذا الأمر حين تحدث عن أنواع من التجديد تشمل "التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني".

وهذه الأنواع التي ذكرها رضا كفيلة بتحقيق "المصالح العامة" التي أجهضها الاستبداد والاحتلال معًا، ولن يتحقق "مستقبل مشرق" من دون الحديث عن تجديد يتعلق بأمور المعاش كالزراعة والصناعة والتجارة والاقتصاد، لتجاوز حالة الفقر المدقع التي تعاني منها شريحة واسعة من شعوبنا.

وكيف يمكن الحديث عن مستقبل مشرق وتقدم وازدهار من دون الحديث عن العلوم والفنون والتعليم والصحة والحريات والحقوق والقضاء العادل وسيادة القانون؟. بل كيف تقوم لأمة قائمة بذاتها من دون الحديث عن بناء دولة القانون والحريات ومن دون بحث الجانب العسكري الذي يصون الأمن القومي، ويحفظ حقوق الأمة خاصةً في ظل ما يجري من عدوان إسرائيلي مدعوم أميركيًّا؟ بل إن من أخطر أسباب فشل الخطاب النهضوي الذي تزعم "تكوين" أنها حريصة على استعادته: الاستبداد والاستعمار.

  • ثالثًا: الوهم بأن العودة إلى النص الأصلي ستحل جميع مشكلات الحاضر

هذا الوهم تملك من الإصلاحيين والسلفيين قديمًا، ويستخدمه – حاليًا – ساسة الأفكار لمحاربة مشروع "الإسلام السياسي"، ويقوم على افتراض أن قراءتهم لما يسمى "إسلام القرآن" هي قراءة خالصة ونقية، وليست تأويلاً جديدًا يضاف إلى التأويل التاريخي المستمر للنص الذي واكبه ممارسة حية تَشَكل منها ما سمي "التقليد الإسلامي" الذي كان تقليدًا حيًّا تَزَاوج فيه النص والتاريخ تفاعلاً وانسجامًا.

فساسة الأفكار يتوسلون بالنص لنزع الشرعية عن الموروث الإسلامي الذي يزعم الإسلاميون أنه مرجعيتهم، فتهدف سياسة الأفكار إلى سحب البساط الذي يقف عليه الإسلاميون بزعمهم. وافتراض غياب المسافة الفاصلة بيننا وبين النص هو نزوع حديث توافق عليه السلفيون والإصلاحيون معًا؛ لأن كليهما يعادي التقليد، ويريد أن يتجاوز التجربة التاريخية، ويزعم أنه يمكنه القبض على المعنى الصافي للنص، ولا يعي أنه غارق في ثقافة زمانه وسياساتها أيضًا.

  • رابعًا: القطيعة مع قيم الحداثة؛ على الرغم من ادعاء الارتباط والتواصل بها

في الوقت الذي تزعم فيه "تكوين" أنها تطمح إلى الربط بين الفكر الديني و"مستجدات العصر"، وأنها تريد للفكر الديني أن يواكب "التقدم في كافة المجالات العلمية والفكرية والقيمية"، نجد أن المكوّنين أنفسهم لا يقدمون أي إسهام يذكر في نشر أفكار الحداثة والتقدم على المستوى السياسي والاجتماعي، فأين هم من أفكار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والإصلاح الاقتصادي والتقدم العلمي والتقني وحقوق المواطنة المتساوية والدولة المدنية العصرية والحريات الفردية المكفولة إلى غير ذلك من قيم الحداثة النبيلة؟ أي أن المكوِّنين أنفسهم يفتقرون إلى مستجدات العصر، ويعانون من قطيعة معها، وهم أحوج الناس إلى التكوين والتنوير والانفتاح على العالم!

والله أعلم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة